الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
.تفسير الآيات (1- 3): {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)}فيه أربع مسائل:الأولى: روى النسائي عن ابن عباس قال: لما قدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا، فأنزل الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فأحسنوا الكيل بعد ذلك. قال الفراء: فهم من أوفى الناس كيلا إلى يومهم هذا. وعن ابن عباس أيضا قال: هي: أول سورة نزلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساعة نزل المدينة، وكان هذا فيهم، كانوا إذا اشتروا استوفوا بكيل راجح، فإذا باعوا بخسوا المكيال والميزان، فلما نزلت هذه السورة انتهوا، فهم أوفى الناس كيلا إلى يومهم هذا.وقال قوم: نزلت في رجل يعرف بأبي جهينة، واسمه عمرو، كان له صاعان يأخذ بأحدهما، ويعطي بالآخر، قال أبو هريرة رضي الله عنه.الثانية: قوله تعالى: {وَيْلٌ} أي شدة عذاب في الآخرة.وقال ابن عباس: إنه واد في جهنم يسيل فيه صديد أهل النار، فهو قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} أي الذين ينقصون مكاييلهم وموازينهم.وروى عن ابن عمر قال: المطفف: الرجل يستأجر المكيال وهو يعلم أنه يحيف في كيله فوزره عليه.وقال آخرون: التطفيف في الكيل والوزن والوضوء والصلاة والحديث.وفي الموطأ قال مالك: ويقال لكل شيء وفاء وتطفيف.وروى عن سالم ابن أبي الجعد قال: الصلاة بمكيال، فمن أوفى له ومن طفف فقد علمتم ما قال الله عز وجل في ذلك: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ.الثالثة: قال أهل اللغة: المطفف مأخوذ من الطفيف، وهو القليل، والمطفف هو المقل حق صاحبه بنقصانه عن الحق، في كيل أو وزن.وقال الزجاج: إنما قيل للفاعل من هذا مطفف، لأنه لا يكاد يسرق من المكيال والميزان إلا الشيء الطفيف الخفيف، وإنما أخذ من طف الشيء وهو جانبه. وطفاف المكوك وطفافه بالكسر والفتح: ما ملا أصباره، وكذلك طف المكوك وطففه، وفي الحديث: «كلكم بنو آدم طف الصاع لم تملئوه». وهو أن يقرب أن يمتلئ فلا يفعل، والمعنى بعضكم من بعض قريب، فليس لاحد على أحد فضل إلا بالتقوى. والطفاف والطفافة بالضم: ما فوق المكيال. وإناء طفاف: إذا بلغ الملء طفافه، تقول منه: أطففت. والتطفيف: نقص المكيال وهو ألا تملأه إلى أصباره، أي جوانبه، يقال: أدهقت الكأس إلى أصبارها أي إلى رأسها. وقول ابن عمر حين ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبق الخيل: كنت فارسا يومئذ فسبقت الناس حتى طفف بي الفرس مسجد بني زريق، حتى كاد يساوي المسجد. يعني: وثب بي.الرابعة: المطفف: هو الذي يخسر في الكيل والوزن، ولا يوفى حسب ما بيناه، وروى ابن القاسم عن مالك: أنه قرأ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فقال: لا تطفف ولا تخلب، ولكن أرسل وصب عليه صبا، حتى إذا استوفى أرسل يدك ولا تمسك.وقال عبد الملك بن الماجشون: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن مسح الطفاف، وقال: إن البركة في رأسه. قال: وبلغني أن كيل فرعون كان مسحا بالحديد.قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} قال الفراء: أي من الناس يقال: اكتلت منك: أي استوفيت منك ويقال اكتلت ما عليك: أي أخذت ما عليك.وقال الزجاج: أي إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل، والمعنى: الذين إذا استوفوا أخذوا الزيادة، وإذا أوفوا أو وزنوا لغيرهم نقصوا، فلا يرضون للناس ما يرضون لأنفسهم. الطبري: عَلَى بمعنى عند. قوله تعالى: {وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ}: أي كالوا لهم أو وزنوا لهم فحذفت اللام، فتعدى الفعل فنصب، ومثله نصحتك ونصحت لك، وأمرتك به وأمرتكه، قاله الأخفش والفراء. قال الفراء: وسمعت أعرابية تقول إذا صدر الناس أتينا التاجر فيكيلنا المد والمدين إلى الموسم المقبل. وهو من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس. قال الزجاج: لا يجوز الوقف على {كالوا} ووزنوا حتى تصل به هم قال: ومن الناس من يجعلها توكيدا، ويجيز الوقف على {كالوا} و{وزنوا} والأول الاختيار، لأنها حرف واحد. هو قول الكسائي. قال أبو عبيد: وكان عيسى بن عمر يجعلها حرفين، ويقف على {كالوا} و{وزنوا} ويبتدئ {هم يخسرون} قال: وأحسب قراءة حمزة كذلك أيضا. قال أبو عبيد: والاختيار أن يكونا كلمة واحدة من جهتين: إحداهما: الخط، وذلك أنهم كتبوهما بغير ألف، ولو كانتا مقطوعتين لكانتا {كالوا} و{وزنوا} بالألف، والأخرى: أنه يقال: كلتك ووزنتك بمعنى كلت لك، ووزنت لك، وهو كلام عربي، كما يقال: صدتك وصدت لك، وكسبتك وكسبت لك، وكذلك شكرتك ونصحتك ونحو ذلك. قوله: يُخْسِرُونَ: أي ينقصون، والعرب تقول: أخسرت الميزان وخسرته. وهم في موضع نصب، على قراءة العامة، راجع إلى الناس، تقديره وإذا كالوا الناس {أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} وفية وجهان: أحدهما أن يراد كالوا لهم أو وزنوا لهم، فحذف الجار، وأوصل الفعل، كما قال:أراد: جنيت لك، والوجه الآخر: أن يكون على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، والمضاف هو المكيل والموزون. وعن ابن عباس رضي الله عنه: إنكم معاشر الأعاجم وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم: المكيال والميزان. وخص الأعاجم، لأنهم كانوا يجمعون الكيل والوزن جميعا، وكانا مفرقين في الحرمين، كان أهل مكة يزنون، واهل المدينة يكيلون. وعلى القراءة الثانية {هم} في موضع رفع بالابتداء، أي وإذا كالوا للناس أو وزنوا لهم فهم يخسرون. ولا يصح، لأنه تكون الأولى ملغاة، ليس لها خبر، وإنما كانت تستقيم لو كان بعدها: وإذا كالوا هم ينقصون، أو وزنوا هم يخسرون.الثانية: قال ابن عباس قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت الفاحشة فيهم إلا ظهر فيهم الطاعون، وما طففوا الكيل إلا منعوا النبات، وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس الله عنهم المطر» خرجه أبو بكر البزار بمعناه، ومالك بن أنس أيضا من حديث ابن عمر. وقد ذكرناه في كتاب التذكرة.وقال مالك بن دينار: دخلت على جار لي قد نزل به الموت، فجعل يقول: جبلين من نار! جبلين من نار! فقلت: ما تقول؟ أتهجر؟ قال: يا أبا يحيى، كان لي مكيالان، أكيل بأحدهما، واكتال بالآخر فقمت فجعلت أضرب أحدهما بالآخر حتى كسرتها فقال: يا أبا يحيى، كلما ضربت أحدهما بالآخر ازداد عظما، فمات من وجعه.وقال عكرمة: أشهد على كل كيال أو وزان أنه في النار. قيل له: فإن ابنك كيال أو وزان. فقال: أشهد أنه في النار. قال الأصمعي: وسمعت أعرابية تقول: لا تلتمس المروءة ممن مروءته في رءوس المكاييل، ولا ألسنة الموازين.وروى ذلك عن علي رضي الله عنه، وقال عبد خير: مر علي رضي الله عنه على رجل وهو يزن الزعفران وقد أرجح، فأكفأ الميزان، ثم قال: أقم الوزن بالقسط، ثم أرجح بعد ذلك ما شئت. كأنه أمره بالتسوية أولا ليعتادها، ويفضل الواجب من النفل.وقال نافع: كان ابن عمر يمر بالبائع فيقول: أتق الله وأوف الكيل والوزن بالقسط، فإن المطففين يوم القيامة يوقفون حتى إن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم. وقد روى أن أبا هريرة قدم المدينة وقد خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى خيبر واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة، فقال أبو هريرة: فوجدناه في صلاة الصبح فقرأ في الركعة الأولى كهيعص وقرأ في الركعة الثانية {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} قال أبو هريرة: فأقول في صلاتي: ويل لابي فلان، كان له مكيالان إذا اكتال اكتال بالوافي، وإذا كال كال بالناقص. .تفسير الآيات (4- 6): {أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6)}إنكار وتعجيب عظيم من حالهم، في الاجتراء على التطفيف، كأنهم لا يخطرون التطفيف ببالهم، ولا يخمنون تخمينا {أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} فمسئولون عما يفعلون. والظن هنا بمعنى اليقين، أي ألا يوقن أولئك، ولو أيقنوا ما نقصوا في الكيل والوزن.وقيل: الظن بمعنى التردد، أي إن كانوا لا يستيقنون بالبعث، فهلا ظنوه، حتى يتدبروا ويبحثوا عنه، ويأخذوا بالأحوط {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} شأنه وهو يوم القيامة. قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} فيه أربع مسائل:الأولى: العامل في يَوْمَ فعل مضمر، دل عليه مَبْعُوثُونَ. والمعنى يبعثون يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. ويجوز أن يكون بدلا من يوم في لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، وهو مبني.وقيل: هو في موضع خفض، لأنه أضيف إلى غير متمكن.وقيل: هو منصوب على الظرف أي في يوم، ويقال: أقم إلى يوم يخرج فلان، فتنصب يوم، فإن أضافوا إلى الاسم فحينئذ يخفضون ويقولون: أقم إلى يوم خروج فلان.وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير: إنهم مبعوثون يوم يقوم الناس لرب العالمين ليوم عظيم.الثانية: وعن عبد الملك بن مروان: أن أعرابيا قال له: قد سمعت ما قال الله تعالى في المطففين، أراد بذلك أن المطففين قد توجه عليهم هذا الوعيد العظيم الذي سمعت به، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن.وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعظيم، وقيام الناس فيه لله خاضعين، ووصف ذاته برب العالمين، بيان بليغ لعظم الذنب، وتفاقم الإثم في التطفيف، وفيما كان في مثل حاله من الحيف، وترك القيام بالقسط، والعمل على التسوية والعدل، في كل أخذ وإعطاء، بل في كل قول وعمل.الثالثة: قرأ ابن عمر: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ حتى بلغ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ فبكى حتى سقط، وامتنع من قراءة ما بعده، ثم قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «يوم يقوم الناس لرب العالمين، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فمنهم من يبلغ العرق كعبيه، ومنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم من يبلغ حقويه، ومنهم من يبلغ صدره، ومنهم من يبلغ أذنيه، حتى إن أحدهم ليغيب في رشحه كما يغيب الضفدع».وروى ناس عن ابن عباس قال: يقومون مقدار ثلاثمائة سنة. قال: ويهون على المؤمنين قدر صلاتهم الفريضة.وروى عن عبد الله بن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يقومون ألف عام في الظلة».وروى مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يوم يقوم الناس لرب العالمين حتى إن أحدهم ليقوم في رشحه إلى أنصاف أذنيه». وعنه أيضا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يقوم مائة سنة».وقال أبو هريرة قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبشير الغفاري: «كيف أنت صانع في يوم يقوم الناس فيه مقدار ثلاثمائة سنة لرب العالمين، لا يأتيهم فيه خبر، ولا يؤمر فيه بأمر» قال بشير: المستعان الله. قلت: قد ذكرناه مرفوعا من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنه ليخفف عن المؤمن، حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا» في {سَأَلَ سائِلٌ} [المعارج: 1]. وعن ابن عباس: يهون على المؤمنين قدر صلاتهم الفريضة.وقيل:إن ذلك المقام على المؤمن كزوال الشمس، والدليل على هذا من الكتاب قوله الحق: {أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] ثم وصفهم فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 63] جعلنا الله منهم بفضله وكرمه وجوده. ومنه أمين.وقيل: المراد بالناس جبريل عليه السلام يقوم لرب العالمين، قاله ابن جبير وفية بعد، لما ذكرنا من الاخبار في ذلك، وهي صحيحة ثابتة، وحسبك بما في صحيح مسلم والبخاري والترمذي من حديث ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ قال: «يقوم أحدهم في رشحه إلى نصف أذنيه». ثم قيل: هذا القيام يوم يقومون من قبورهم.وقيل: في الآخرة بحقوق عباده في الدنيا.وقال يزيد الرشك: يقومون بين يديه للقضاء.الرابعة: القيام لله رب العالمين سبحانه حقير بالإضافة إلى عظمته وحقه، فأما قيام الناس بعضهم لبعض فاختلف فيه الناس، فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه. وقد روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام إلى جعفر بن أبي طالب واعتنقه، وقام طلحة لكعب بن مالك يوم تيب عليه. وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأنصار حين طلع عليه سعد بن معاذ: «قوموا إلى سيدكم».وقال أيضا: «من سره أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار». وذلك يرجع إلى حال الرجل ونيته، فإن أنتظر ذلك واعتقده لنفسه، فهو ممنوع، وإن كان على طريق البشاشة والوصلة فإنه جائز، وخاصة عند الأسباب، كالقدوم من السفر ونحوه. وقد مضى في آخر سورة يوسف شيء من هذا.
|